سورة يوسف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} أي أُرسل إليه فأتاه فقال: يا يوسف ووصفَه بالمبالغة في الصدق حسبما شاهده وذاق أحوالَه وجرّبها لكونه بصدد اغتنامِ آثارِه واقتباس أنوارِه فهو من باب براعة الاستهلال {أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات} أي في رؤيا ذلك وإنما لم يصرّح به لوضوح مرامِه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدَلالة مضمونِ الحادثة عليه حيث لا إمكان لوقوعه في عالم الشهادةِ، أي بيِّنْ لنا مآلَها وحكمَها، وحيث عاين علوَّ رتبتِه عليه السلام في الفضل عبّر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبُه أولاً: نبّئنا بتأويله وفي قوله: أفتنا مع أنه المستفتي وحده وإشعارٌ بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسةٌ بأمور العامة وأنه في ذلك مَعْبرٌ وسفيرٌ كما آذن بذلك حيث قال: {لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس} أي إلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد إن كان السجنُ في الخارج كما قيل فأُنبّئهم بذلك {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} ذلك ويعملون بمقتضاه أو يعلمون فضلَك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلّصَ منه وإنما لم يبُتَّ القولَ في ذلك مجاراةً معه على نهج الأدب واحترازاً عن المجازفة إذ لم يكن على يقين من الرجوع فربما اختُرم دونه أو لعل المنايا دون ما تعدّاني، ولا مِنْ علمهم بذلك فربما لم يعلموه.
{قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال يوسفُ عليه السلام في التأويل؟ فقيل: قال: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} قرئ بفتح الهمزة وسكونِها وكلاهما مصدرُ دأب في العمل إذ جدّ فيه وتعِب، وانتصابُه على الحالية من فاعل تزرعون أي دائبين أو تدأبون دأباً على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل هو الحال.
أوّلَ عليه السلام البقراتِ السمانَ والسنبلاتِ الخضْرَ بستينَ مخاصيبَ والعجافَ واليابساتِ بسنينَ مُجدبةٍ فأخبرهم بأنهم يواظبون سبعَ سنين على الزراعة ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخِصْبُ الذي هو مصداقُ البقراتِ السمان وتأويلُها، ودلهم في تضاعيف ذلك على أمر نافعٍ لهم فقال: {فَمَا حَصَدتُّمْ} أي في كل سنة {فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ} ولا تَذْروه كيلا يأكلَه السوسُ كما هو شأنُ غلالِ مصرَ ونواحيها، ولعله عليه السلام استدل على ذلك بالسنبلات الخُضرِ وإنما أمرهم بذلك إذ لم يكن معتاداً فيما بينهم، وحيث كانوا معتادين للزراعة لم يأمرهم بها وجعلَها أمراً محققَ الوقوع وتأويلاً للرؤيا مصداقاً لما فيها من البقرات السمان {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ} في تلك السنسن وفيه إرشادٌ منه عليه السلام لهم إلى التقليل في الأكل والاقتصارِ على استثناء المأكولِ دون البَذْر لكون ذلك معلوماً من قوله: تزرعون سبعَ سنين، وبعد إتمام ما أمرهم به شرَع في بيان بقيةِ التأويلِ التي يظهر منها حكمةُ الأمر المذكور فقال:


{ثُمَّ يَأْتِى} وهو عطفٌ على تزرعون فلا وجه لجعله بمعنى الأمر حثاً لهم على الجد والمبالغة في الزراعة، على أنه يحصل بالإخبار بذلك أيضاً {مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد السنين السبعِ المذكوراتِ وإنما لم يقل من بعدهن قصداً إلى الإشارة إلى وصفهن فإن الضمير ساكتٌ عن أوصاف المرجعِ بالكلية {سَبْعٌ شِدَادٌ} أي سبعُ سنينَ صعابٌ على الناس {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} من الحبوب المتروكةِ في سنابلها، وفيه تنبيهٌ على أن أمرَه عليه السلام بذلك كان لوقت الضرورة وإسنادُ الأكل إليهن مع أنه حالُ الناس فيهن مجازيٌّ كما في نهارُه صائمٌ، وفيه تلويحٌ بأنه تأويلٌ لأكل العجافِ السمانَ واللام في لهن ترشيحٌ لذلك فكأن ما ادُّخر في السنابل من الحبوب شيءٌ قد هُيِّيء وقُدِّم لهن كالذي يقدَّم للنازل وإلا فهو في الحقيقة مقدَّمٌ للناس فيهن {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ} تُحرِزون مبذوراً للزراعة.
{ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد السنين الموصوفةِ بما ذكر من الشدة وأكلِ الغلال المدَّخرة {عَامٌ} لم يعبّر عنه بالسنة تحاشياً عن المدلول الأصليِّ لها من عام القحط وتنبيهاً من أول الأمرِ على اختلاف الحالِ بينه وبين السوابق {فِيهِ يُغَاثُ الناس} من الغيث أي يُمطَرون يقال: غِيثت البلادُ إذا مُطرت في وقت الحاجة أو من الغوث، يقال: أغاثنا الله تعالى أي أمدنا برفع المكاره حين أظلّتنا {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي ما مِن شأنه أن يُعصر من العنب والقصَب والزيتون والسمسم ونحوِها من الفواكه لكثرتها. والتعرضُ لذكر العصر مع جواز الاكتفاءِ عنه بذكر الغيث المستلزمِ له عادة كما اكتُفي به عن ذكر تصرِفهم في الحبوب إما لأن استلزامَ الغيثِ له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكوراتُ يتوقف صلاحُها على مبادٍ أخرى غيرِ المطر، وإما لمراعاة جانبِ المستفتي باعتبار حالتِه الخاصة به بشارةً له وهي التي يدور عليها حسنُ موقع تغليبِه على الناس في القراءة بالفوقانية، وقيل: معنى يعصرون يحلبون الضروعَ، وتكريرُ فيه إما للإشعار باختلاف أوقاتِ ما يقع فيه من الغيث والعصر زماناً وهو ظاهرٌ وعنواناً فإن الغيثَ والغوثَ من فضل الله تعالى والعصرُ من فعل الناس، وإما لأن المقام مقامُ تعداد منافعِ ذلك العام ولأجله قُدّم في الموضعين على الفعلين فإن المقصودَ الأصليَّ بيان أنه يقع في ذلك العام هذا النفعُ وذاك النفعُ لا بيانُ أنهما يقعان في ذلك العام يفيده التأخير، ويجوز أن يكون التقديمُ للقصر على معنى أن غيثهم وعصرَهم في سائر السنين بمنزلة العدمِ بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعاة الفواصلِ وفي الأول لرعاية حالِه، وقرئ {يُعصَرون} على البناء للمفعول من عصره إذا أنجاه وهو المناسبُ للإغاثة ويجوز أن يكون المبنيُّ للفاعل أيضاً منه كأنه قيل: فيه يغاث الناسُ وفيه يُغيثون أي يغيثهم الله ويغيثُ بعضُهم بعضاً، وقيل: معنى يُعصَرون يمطَرون من أعصرت السحابةُ إما بتضمين أعصرت معنى مطرَت وتعديتِه وإما بحذف الجارِّ وإيصالِ الفعل، على أن الأصلَ أعصرت عليهم، وأحكامُ هذا العام المبارك ليست مستنبَطةً من رؤيا الملكِ وإنما تلقاها عليه السلام من جهة الوحي فبشَّرهم بها بعد ما أوّل الرؤيا بما أول وأمرَهم بالتدبير اللائقِ في شأنه إبانةً لعلو كعبِه ورسوخِ قدمِه في الفضل وأنه محيطٌ بما لم يخطُر ببال أحدٍ فضلاً عما يُرى صورتُه في المنام على نحو قوله لصاحبيه عند استفتائِهما في منامهما: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} وإتماماً للنعمة عليهم حيث لم يشاركه عليه السلام في العلم بوقوعها أحدٌ ولو برؤية ما يدل عليها في المنام.


{وَقَالَ الملك} بعد ما جاءه السفيرُ بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقِطمير {ائتونى بِهِ} لِما علم من علمه وفضله {فَلَمَّا جَاءهُ} أي يوسفَ {الرسول} واستدعاه إلى الملك {قَالَ ارجع إلى رَبّكَ} أي سيدك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي ففتشه عن شأنهن وإنما لم يقل: فاسأله أن يفتش عن ذلك حثاً للملك على الجد في التفتيش ليتبين براءتُه ويتضح نزاهتُه إذ السؤالُ مما يهيج الإنسانَ على الاهتمام في البحث للتفصّي عما توجه إليه وأما الطلب فمما قد يتسامح ويُتساهل فيه ولا يبالى به وإنما لم يتعرض لامرأة العزيزِ مع ما لقِيَ من مقاساة الأحزان ومعاناة الأشجانِ محافظةً على مواجب الحقوق واحترازاً عن مكرها حيث اعتقدها مقيمةً في عُدوة العداوة، وأما النسوةُ فقد كان يطمع في صَدْعهن بالحق وشهادتِهن بإقرارها بأنها راودتْه عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرّح بمراودتهن له وقولِهن: أطع مولاتك واكتفي بالإيماء إلى ذلك بقوله: {إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} مجاملةً معهن واحترازاً عن سوء قالتِهن عند الملكِ وانتصابِهن للخصومة مدافعةً عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد {قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال الملكُ إثَر ما بلّغه الرسولُ الخبر وأحضرهن: {مَا خَطْبُكُنَّ} أي شأنكن وهو الأمرُ الذي يحِق لعُظْمه أن يخاطِبَ المرءُ فيه صاحبه {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ} وخادعتُنّه {عَن نَّفْسِهِ} ورغبتُنّه في إطاعة مولاته هل وجدتُن فيه شيئاً من سوء وريبة؟ {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهاً له وتعجباً من نزاهته وعفته {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} بالغْن في نفي جنس السوءِ عنه بالتنكير وزيادة من {قَالَتِ امرأت العزيز} وكانت حاضرةً في المجلس وقيل: أقبلت النسوةُ عليها يقرِّرنها، وقيل: خافت أن يشهَدْن عليها بما قالت لهن: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين} فأقرت قائلة: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي ثبت واستقرَّ أو تبيّن وظهر بعد خفاء، قاله الخليل، وقيل: هو مأخوذ من الحِصة وهي القطعة من الجملة أي تبين حصةُ الحقِّ من حصة الباطل كما تتبين حِصصُ الأراضي وغيرها، وقيل: بان وظهر من حصّ شعرَه إذا استأصله بحيث ظهرت بشرةُ رأسه، وقرئ على البناء للمفعول من حَصحَص البعيرُ مباركَه أي ألقاها في الأرض للإناخة قال:
فحصحَص في صُمّ الصفا ثفَناتِه *** وناء بسلمى نوأةً ثم صمّما
والمعنى أُقرَّ الحقُّ في مقرّه ووُضع في موضعه ولم ترِدْ بذلك مجردَ ظهور ما ظهر بشهادتهن من مطلق نزاهتِه عليه السلام فيما أحاط به علمُهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطنِ خصوصاً فيما وقع فيه التشاجرُ بمحضر العزيز، ولا بحثٍ عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهورَ ما هو متحققٌ في نفس الأمر وثبوتِه من نزاهته عليه السلام في محل النزاعِ وخيانتِها فقالت: {أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ} لا أنه راودني عن نفسي {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي في قوله حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي وأرادت بالآن زمانَ تكلّمها بهذا الكلام لا زمانَ شهادتِهن فتأمل أيها المنصفُ هل ترى فوق هذه المرتبةِ نزاهةً حيث لم تتمالك الخُصماء من الشهادة بها، والفضلُ ما شهدت بهِ الخصماءُ وإنما تصدى عليه السلام لتمهيد هذه المقدمة قبل الخروج ليُظهر براءةَ ساحتِه مما قُذف به لا سيما عند العزيزِ قبل أن يحُلّ ما عقَده كما يُعرب عنه قوله عليه السلام لما رجع إليه الرسولُ وأخبره بكلامهن.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14